قصة عن سيدنا الشيخ ابو الحسن الكردي الدمشقي رحمه الله .
بقلم حفيده
بينما كانت جدتي تعد طعام الغداء وضجيج الأولاد يملأ الحارة بعد انصرافهم من المدرسة
بعضهم يغني وبعضهم يركض
والآخرون تجمعوا على دكان ( أبي لطفي وأبي حاتم وأبي إبراهيم )
ليشتروا ما تبرق عيون الأطفال لرؤيته وخصوصاً بزر دوار الشمس
وصدى ضحكاتهم البريئة يتردد في سماء الحي
كان جدي الشيخ أبو الحسن الكردي رحمه الله دخل لتوّه
وقبل أن يخلع جبّته سمع صوت ابنه الصغير ( بدر ) يبكي أسفل البناء
نعم إنه صوت بدر يبكي بشدة
أسرع جدي إلى باب البناء ليرى ولده الصغير
- شوفي ليش عم تبكي ؟؟
- ضربني هاد الولد ... ...
وأشار خالي إلى طفل واقف عند مدخل البناء وقد علاه نشوة الانتصار ولا يزال لديه المزيد من التحدي
صاح جدي بالولد بصوته الحازم :
- ليش ضربته ؟؟ مو حرام عليك ؟؟ مو رفيقك ؟؟ يلا من هون على بيتكم ... ... يلا
هرب الولد وهو يحمل غير قليل من الخوف بين جنبيه شاكراً لله أن الشيخ لم يضربه ...
أمسك جدي بيد صغيره وصعدا البيت
وما إن هدأ البدر الجميل حتى بادره جدي مستفهماً :
- شو القصة ليش ضربك الولد ؟؟
فقصَّ خالي قصّة من قصص الأطفال البريئة ليست ذات بال
- من هذا الولد ؟؟ ... ... ما اسمه ؟؟
- إنه فلان
- ماذا يعمل أبوه ؟؟
- أبوه ميت ... ... ...
فتح جدي عينيه وقد صدمته الكلمة كمن تلقى خبراً بوفاة عزيز
- ماذا ؟؟!!!! يعني الولد يتيم ؟؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- نعم
- أين يسكن ؟؟
- لا أعرف
ترك جدي صغيره وأخذ بخطوات العجوز الثمانيني يسابق خطوات الشباب بحثاً عن الطفل
كان جلّ الأولاد وصلوا بيوتهم
بحث يمنة ويسرة دون أن يجد الطفل ... ليعود إلى بيته مهموماً كئيباً
لم يكد يدلف من باب الدار حتى لاحت أمامه الآية ( فأما اليتيم فلا تقهر )
كيف قهرت هذا اليتيم ؟؟
كيف صرخت في وجهه وطردته دون أن أستوضح منه ؟؟
وداخله رحمه الله غمٌ ما بعده غم
وبات ليله ينتظر الصباح بصبر العطاش إلى قطر الغيث
وما إن قارب دخول الأولاد إلى المدرسة حتى نزل - رحمه الله - قرب المدرسة التي تفصلها أمتار قليلة عن بيته لعله يحظى بهذا الولد ... ... ولكنه لم يجده
ثم عاود الكرّة وقت الانصراف بيد أن أثراً للطفل لم يظهر
ثلاثة أيام صباحاً وظهراً
والشيخ الجليل والعالم الفقيه والحافظ الجامع يقف في الطريق
يقف وقد ناهز الثمانين
يقف بجلالة قدره
((( ينتظر طفلاً في العاشرة ... ... ))) !!!!!
ثلاثة أيام لا يهدأ للشيخ بال ولا يقرّ له قرار
في الليل يرافقه خيال الطفل
وفي الطريق يتمنى أن يراه أمامه
وفي المسجد يرجو أن يقفز قبالته
هل اختفى الطفل ؟؟
هل سألقى ربي بعد هذا العمر بقهر يتيم ؟؟
لقد كان بحق عذاباً يعزُّ وصفه
لعل الطفل لم يكترث كثيراً لما حصل
ولم يرافقه الضيق أكثر من تجازوه لعتبة بيته ورؤيته لصحن الأكل أمامه
فالشيخ لم يضربه ولم يسبه ولا يعيره
لكنّ حساب الشيخ كان مختلفاً
وأخيراً ... ...
في اليوم الثالث عند الانصراف ظهر الولد
نعم إنه هو - نعم بالتأكيد
تهلل وجه الشيخ واستبشر وانطلق نحو الطفل
نظر الطفل بوجوم وعقله الصغير لا يسعفه بتخمين ما يضمر له الشيخ الكبير
سلم عليه الشيخ وربت على كتفه وبادره بابتسامته الآسرة
- أهلين حبيبي كيف حالك ؟؟
تلعثمت شفاه الولد بالحمد لله ... وعيونه تسأل ما الذي سيحصل ؟
- تعال معي حبيبي
أمسك الشيخ بيد الصغير وصعد به البيت وأدخله غرفة الضيوف وألان له الكلام وطيب له العبارات
وقدم له طعام الغداء وجلس يلقمه بيده
وما أن امتنع الطفل عن تناول المزيد حتى أخرج الشيخ كيساً فيه ما لذ وطاب مما يحبه الصغار وبعد أن قدمه للطفل أتبع الشيخ ذلك بتقديم مبلغ من المال
ثم بادر قائلاً :
- لا تزعل مني حبيبي
أنا ما قصدت عيط عليك
قصدي يا ابني انو أنتو بالمدرسة تكونوا رفقات
قصدي تحبوا بعض وما تتخانقوا وتديروا بالكم على بعض
ونوّع الشيخ في عبارات الاعتذار الراقية التي تتناسب ورقيّ روح الشيخ وقلبه النقيّ
وما إن اطمأن الشيخ أن قلب الولد قد أترع سروراً وبدا البشر على محيَّاه وطابت نفسه بما نال من إكرام
بل وطار عقله بما رأته عيناه من نقود ملأت كفه الطري وطعام يشتهيه الأولاد ملأ الكيس الذي تمسكه الكف الأخرى
وشعر الشيخ بذلك دون أن يساوره أدنى شك أن إضافة ما تجب عليه تجاه الصغير
حتى قام يودعه والشعور بإرضاء ربه غمر قلبه المفعم بالإيمان
لم يكن الشيخ يبالي هل سيحفظ الولد ذلك أم لا
لم يكن الشيخ يبالي هل عرف الطفل قدره أم لا
لم يكن الشيخ يبالي هل سيذكر الطفل ذلك لأحد أم لا
بل كان همّ الشيخ واحداً ... ...أن يلقى الله دون ذرة مخالفة لما حفِظَ وحفّظ وقرأ وأقرأ من كتاب الله تعالى
لعل هذه القصة وأشباهها تحمل بين طياتها بعض السر في أمور ليس شأنها أن نعدها بل أن نتعمق في أغوارها ...
إنها بعض السر في .......
في انتشار إجازة الشيخ في القرآن الكريم انتشاراً يفوق الوصف
في تزاحم الطلاب والطالبات على باب بيته
في أن يقطع أشخاص مئات الكيلومترات أسبوعياً ليمثلوا بين يديه ويقرؤوا عليه القرآن كاملاً حتى يختموا
في أن تَدخُلَ مقاطعةً في كندا تفوق مساحتها سوريا يسكنها عشرة آلاف من البشر علق على جدار مركزها الإسلامي إجازة الشيخ أبي الحسن محيي الدين الكردي
والبعض الآخر يكمن في علاقة فريدة بينه وبين الله تعالى
نم قرير العين أيها الشيخ الجليل
فلا زالت قصة حياتك مسطَّرة نقرؤها في آيات القرآن الكريم
كلما قرأنا آية قفز مشهد من مشاهد حياتك يحاكيها بأبهى ما يتحاكى الفعل والمضمون
سأقص بعض قصصك ليسير على دربها الأجيال وينسج على منوالها المتقون
لعل الله ادخرك لهذا الزمان ... حتى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة
ربنا اجعل القرآن حجة لنا لا علينا
وشافعاً لنا يوم الدين
آمين اللهم آمين
بقلم
محمد الطيب سعيد كوكي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق